فصل: بركة قرموط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 بركة قرموط

‏:‏ هذه البركة فيما بين اللوق والمقس كانت من جملة بستان ابن ثعلب فلما حفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصري من موردة البلاط رمى ما خرج من الطين في هذه البركة وبنى الناس الدور على الخليج فصارت البركة من ورائها وعُرفت تلك الخطة كلها ببركة قرموط وأدركنا بها ديارًا جليلة تناهى أربابها في أحكام بنائها وتحسين سقوفها وبالغوا في زخرفتها بالرخام والدهان وغرسوا بها الأشجار وأجروا إليها المياه من الآبار فكانت تعدّ من المساكن البديعة النزهة وأكثر من كان يسكنها الكتاب مسلموهم ونصاراهم وهم في الحقيقة المترفون أولو النعمة فكم حوت تلك الديار من حسن ومستحسن وأني لأذكرها وما مررت بها قد إلاّ وتبين لي من كل دار هناك آثار النعم أما روائح تقالي المطابخ أو عبير بخور العود والندّ أو نفحات الخمر أو صوت غناء أو دقِّ هاون ونحو ذلك ما يبين عن ترف سكان تلك الديار ورفاهة عيشهم وغضارة نعمهم ثم هي الآن موحشة خراب قد هُدمت تلك المنازل وبيعت أنقاضها منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة فزالت الطرق وجهلت الأزقة وانكشفت البركة وبقي حولها بساتين خراب وبلغني أن المراكب كانت تعبر إلى هذه البركة للتنزه وما أحسب ذلك كان فإنها كانت من جملة البستان ولم ينقل إنه كان يقربها خليج سوى الخور ويُبعد ن يصل إليها والله أعلم‏.‏

وقرموط هذا هو أمين الدين قرموط مستوفي الخزانة السلطانية‏.‏

بركة قراجا‏:‏ هذه البركة خارج الحسينية قريبًا من الخندق عرفت بالأمير زين الدين قراجا التركماني أحد أمراء مصر أنعم عليه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون بالأمرة في سنة سبع عشرة وسبعمائة‏.‏

البركة الناصرية‏:‏ هذه البركة من جملة جنان الزهريّ فلما خربت جنان الزهريذ صار موضعها كوم تراب إلى أن أنشأ السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون ميدان المهاري في سنة عشرين وسبعمائة وأراد بناء الزريبة بجانب الجامع الطبرسيّ احتاج في بنائها إلى طين فركب وعين مكان هذه البركة وأمر الفخر ناظر الجيش فكتب أوراقًا بأسماء الأمراء وانتدب الأمير بيبرس الحاجب فنزل بالمهندسين فقاسوا دور البركة ووزع على الأمراء بالأقصاب فنزل كل أمير وضرب خيمة لعمل ما يخصه فابتدؤا العمل في يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وسبعمائة فتمادى الحفر إلى جانب كنيسة الزهريّ وكان إذ ذاك في تلك الأرض عدّة كنائس ولم يكن هناك شيء من العمائر التي هي اليوم حول البركة الناصرية ولا من العمائر التي في خط قناطر السباع ولا في خط السبع سقايات إلى قنطرة السدّ وإنما كانت بساتين وكنائس وديورة للنصارى فاستولى الحفر على ما حول كنية الزهريّ وصارت في وسط الحفر حتى تعلقت وكان القصد أن تسقط من غير تعمد هدمها فأراد الله تعالى هدمها على يد العامّة كما ذكر في خبرها عند ذكر كنائس النصارى من هذا الكتاب فلما تمّ حفر البركة نقل ما خرج منها من الطين إلى الزريبة وأجرى إليها الماء من جوار الميدان السلطانيّ الكائن بأراضي بستان الخشاب عند موردة البلاط فلما امتلأتا بالماء صارت مساحتها سبعة أفدنة فحكر الناس ما حولها وبنوا عليها الدور العظيمة وما برح خط البركة الناصرية عامرًا إلى أن كانت الحوادث من سنة ست وثمانمائة فشرع الناس في هدم ما عليها من الدور فهدم كثيرًا مما كان هناك والهدم مستمرّ إلى يومنا هذا‏.‏

الجسور الجسر بفتح الجيم الذي تسميه العامّة جِسرًا عن ابن دريد وقال الخليل‏:‏ الجَسر والجِسر لغتان وهو قنطرة ونحوها مما يعبر عليه‏.‏

وقال ابن سيده‏:‏ والجسر الذي يعبر عليه والجمع القليل أجسر‏.‏

قال‏:‏ أنّ فراخًا كفراخِ الأوكر بأرضِ بغدادَ وراء الأجسرِ والكثير جسور‏.‏

جسر الأفرم هذا الجسر بظاهر مدينة مصر فيما بين المدرسة المعزية برحبة الحناء قبليّ مصر وبين رباط الآثار النبوية كان موضعه في أوّل الإسلام غامرًا بماء النيل ثم انحسر عنه الماء فصار فضاء إلى بحريّ خليج بني وائل ثم ابتنى الناس فيه مواضع وكان هناك الهري قريبًا من الخليج ثم صار موضع جسر الأفرم هذا ترعة يدخل منها ماء النيل إلى البركة الشعيبية فلما استأجر الأمير عز الدين أيبك الأفرام بركة الشعيبية وجعلها بستانًا كما تقدّم ذكره في البرك ردم هذه الترعة وبنى حيطان البستان وجسر عليه فأقام على ذلك سنين ثم لما استأجر أرض البركة بعدما غرسها بالأشجار إجارة ثانية اشترط البناء على ثلاثة أفدنة في جانب البستان الغربيّ وفدّان في جانبه البحريّ ونادى في الناس بتحكيره وأرخص سعر الحكر وجعل حكر كلّ مائة ذراع عشرة دراهم فهرع الناس إليه واحتكروا مه المواضع وبنوا فيها الدور المطلة على النيل فاستغنى بالعمائر عن عمر الجسر في كلّ سنة بين البحر والبستان الذي أنشأه وبقى اسم الجسر عليه إلى يومنا هذا إلا أن الآدر التي كانت هناك خربت منذ انطرد النيل عن البرّ الغربيّ بعدما بلغ ذلك الخط الغاية في العمارة وكان سكن الوزراء والأعيان من الكتاب وغيرهم‏.‏

الجسر الأعظم هذا الجسر في زماننا هذا قد صار شارعًا مسلوكًا يُمشى فيه من الكبش إلى قناطر السباع وأصله جسر يفصل بين بركة قارون وبركة الفيل وبينهما سرب يدخل منه الماء وعليه أحجار يراها من يمرّ هناك وبلغني أنه كان من قنطرة مرتفعة فلما أنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان السلطانيّ عند موردة لبلاط أمر بهدم القنطرة فهُدمت ولم يكن إذ ذاك على بركة الفيل من جهة الجسر الأعظم مبان وإنما كانت ظاهرة يراها المارّ ثم أمر السلطان بعمل حائط قصير بطولها فأقيم الحائط وصفر بالطين الأصفر ثم حدثت الدور هناك‏.‏

الجسر بأرض الطبالة‏:‏ هذا الجسر يفصل بين بركة الرطليّ وبين الخليج الناصريّ أقامه الأمير الوزير سيف الدين بكتمر الحاجب في سنة خمس وعشرين وسبعمائة لما انتهى حفر الخليج الناصريّ وأذن للناس في البناء عليه فحكر وبنيت فوقه الدور فصارت تشرف على بركة الرطليّ وعلى الخليج وتجتمع العامّة تحت مناظر الجسر وتمرّ بحافة الخليج للنزهة فكثر اغتياط غوغاء الناس وفساقهم بهذا الجسر إلى اليوم وهو من أنزه فرج القاهرة لولا ما عرف به من القاذورات الفاحشة‏.‏

الجسر من بولاق إلى منية الشيرج كان السبب في عمل الجسر أن ماء النيل قويت زيادته في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة حتى أخرق من ناحية بستان الخشاب ودخل الماء إلى جهة بولاق وفاض إلى باب اللوق حتى اتصل بباب البحر وبساتين الخور فهدمت عدّة دور كانت مطلة على البحر وكثير من بيوت الحكورة وامتدّ الماء إلى ناحية منية الشيرج فقام الفخر ناظر الجيش بهذا الأمر وعرّف السلطان الملك الناصر إلى البحر ومعه الأمراء فرأى ما هاله وفكر فيما يدفع ضرر النيل عن القاهرة فاقتضى رأيه عمل جسر عند نزول الماء وانصرف فقويت الزيادة وفاض الماء على منشأة المهرانيّ ومنشأة الكتبة وغرّق بساتين بولاق والجزيرة حتى صار ما بين ذلك ملقة واحدة وركب الناس المراكب للفرجة ومرّوا بها تحت الأشجار وصاروا يتناولون الثمار بأيديهم وهم في المراكب فتقدّم السلطان المتولى القاهرة ومتولى مصر يبث العوان في القاهرة ومصر لردّ الحمير والجمال التي تنقل التراب إلى الكيمان وألزمهم بإلقاء التراب بناحية بولاق ونودي في القاهرة ومصر من كان عنده تراب فليرمه بناحية بولاق وفي الأماكن التي قد علا عليها الماء فاهتمّ الناس من جهة زيادة الماء اهتمامًا كبيرًا خوفًا أن يخرق الماء ويدخل إلى القاهرة وألزم أرباب الأملاك التي ببولاق والخور والمناشيء أن يقف كلّ واحد على إصلاح مكانه ويحترس من عبور الماء على غفلة فتطلب كلّ أحد من الناس الفعلة من غوغاء الناس لنقل التراب حتى عدمت الحرافيش ولم تكن توجد لكثرة ما أخذهم الناس لنقل التراب ورميه وتضرّرت الآدر القريبة من البحر بنززها وغرقت الأقصاب والقلقاس والنيلة وسائر الدواليب التي بأعمال مصر فلما انقضت أيام الزيادة ثبت الماء ولم ينزل في أيام نزوله ففسدت مطامير الغلات ومخازنها وشونها وتحسن سعر السكَّر والعسل وتأخر الزرع عن أوانه لكثرة ما مكث الماء فكتب لولاة الأعمال بكسر الترع والجسور كي ينصرف الماء عن أراضي الزرع إلى البحر الملح واحتاج الناس إلى وضع الخراج عن بساتين بولاق والجزيرة ومسامحتهم بنظير ما فسد من الغرق وفسدت عدّة بساتين إلى أن أذن الله تعالى بنزول الماء فسقط كثير من الدور وأخذ السلطان في عمل الجسور واستدعى المهندسين وأمرهم بإقامة جسر يصدج الماء عن القاهرة خشية أن يكون نيل مثل هذا وكتب بإحضار خولة البلاد فلما تكاملوا أمرهم فساروا إلى النيل وكشفوا الساحل كله فوجدوا ناحية الجزيرة مما يلي المنية قد صارت أرضها وطيئة ومن هناك يخاف على البلد من الماء فلما عرّفوا السلطان بذلك أمر بإلزام من له دار على النيل بمصر أو منشأة المهرانيّ أو منشأة الكتاب أو بولاق أن يعمر قدّامها على البحر زريبة وأنه لا يطلب منهم عليها حكر ونودي بذلك وكتب مرسوم بمسامحتهم من الحكر عن ذلك فشرع الناس في عمل الزرابي وتقدّم إلى الأمراء بطلب فلاحي بلادهم وإحضارهم بالبقر والجراريف لعمل الجسر من بولاق إلى منية الشيرج ونزل المهندسون فقاسوا الأرض وفرضوا لكل أمير أقصابًا معينة وضرب كلّ أمير خيمته وخرج لمباشرة ما عليه من العمل فأقاموا في عمله عشرين يومًا حتى فرغ ونصبت عندهم الأسواق فجاء ارتفاعه من الأرض أربع قصبات في عرض ثماني قصبات فانتفع الناس به انتفاعًا كبيرًا وقدّر الله سبحانه وتعالى أن الزرع في تلك السنة حَسُنَ إلى الغاية وأفلح فلاحًا عجيبًا وانحط السعر لكثرة ما زرع من الأراضي وخصب السنة وكان قد اتفق في سنة سبع عشرة وسبعمائة غرق ظاهر القاهرة أيضًا وذلك أن النيل وفي ستة عشر ذراعًا في ثالث عشر جمادى الأولى وهو التاسع والعشرون من شهر أبيب أحد شهور القبط ولم يعهد مثل ذلك فإن الأنيال البدرية يكون وفاؤها في العشر الأول من مسى فلما كسر سدّ الخليج توقفت الزيادة مدّة أيام ثم زاد وتوقف إلى أن دخل تاسع توت والماء على سبعة عشر ذراعًا وتسعة أصابع ففاض الماء وانقطع طريق الناس فيما بين القاهرة ومصر وفيما بين كوم الريش والمنية وخرج من جانب المنية وغرّقها فكتب بفتح جميع الترع والجسور بسائر الوجه القبليّ والبحريّ وكُسر بحر أبي المنجا وفُتح سدّ بلبيس وغيره قبل عيد الصليب وغرقت الأقصاب والزراعات الصيفية وعمّ الماء ناحية منية الشيرج وناحية شبر فخربت الدور التي هناك وتلف للناس مال كثير من جملته زيادة على ثمانين ألف جرّة خمر فارغة تكسرت في ناحية المنية وشبرًا عند هجوم الماء وتلفت مطامير الغلة من الماء حتى بيع قدح القمح بفلس والفلس يومئذ جزء من ثمانية وأربعين جزأ من درهم وصار من بولاق إلى شبرا بحرًا واحدًا تمرّ فيه المراكب للنزهة في بساتين الجزيرة إلى شبرا وتلفت الفواكه والمشمومات وقلت الخضر التي يُحتاج إليها في الطعام وغرقت منشأة المهرانيّ وفاض الماء من عند خانقاه رسلان وأفسد بستان الخشاب واتصل الماء بالجزيرة التي تعرف بجزيرة الفيل إلى شبرا وغرقت الأقصاب التي في الصعيد فإن الماء أقام عليها ستة وخمسيو يومًا فعصرت كلها عسلًا فقط وخربت سائر الجسور وعلاها الماء وتأخر هبوطه عن الوقت المعتاد فسقطت عدّة دور بالقاهرة ومصر وفسدت منشأة الكتاب المجاورة لمنشأة المهرانيّ فلذلك عمل السلطان الجسر المذكور خوفًا على القاهرة من الغرق‏.‏

الجسر بوسط النيل وكان سبب عمل هذا الجسر أن ماء النيل قوي رميه على ناحية بولاق وهدم جامع الخطيري ثم جدّد وقوّيت عمارته وتيار البحر لا يزداد من ناحية البرّ الشرقيّ إلاّ قوة فأهمّ الملك الناصر أمره وكتب في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة بطلب المهندسين من دمشق وحلب والبلاد الفراتية وجمع المهندسين من أعمال مصر كلها قبليها وبحريها فلما تكاملوا عنده ركب بعساكره من قلعة الجبل إلى شاطيء النيل ونزل في الحراقة وبين يديه الأمراء وسائر أرباب الخبرة من المهندسين وجولة الجسور وكشف أمر شطوط النيل فاقتضى الحال أن يعمل جسرًا فيما بين بولاق وناحية أنبوبة من البرّ الغربي ليردّ قوّة التيار عن البرّ الشرقيّ إلى البرّ الغربيّ وعاد إلى القلعة فكتبت مراسيم إلى ولاة الأعمال بإحضار الرجال صحبة المشدّين واستدعى شادّ العمائر السلطانية وأمره بطلب الحجارين وقطع الحجر من الجبل وطلب رئيس البحر وشادّ الصناعة لإحضار المراكب فلم يمض سوى عشرة أيام حتى تكامل حضور الرجال مع الشادّين من الأقاليم وندب السلطان لهذا العمل الأمير أقبغا عبد الواحد والأمير برصبغا الحاجب فبرز لذلك وأحضر والي القاهرة ووالي مصر وأُمرا بجمع الناس وتسخير كل أحد للعمل فركبا وأخذا الحرافيش من الأماكن المعروفة بهم وقبضا على من وجد في الطرقات وفي المساجد والجوامع وتتبّعاهم في الأسحار ووقع الاهتمام الكبير في العمل من يوم الأحد عاشر ذي القعدة وكانت أيام القيظ فهلك فيه عدّة من الناس والأمير أقبغا في الحراقة يستحث الناس على إنجاز العمل والمراكب تحمل الحجر من الفص الكبير إلى موضع الجسر وفي كل قليل يركب السلطان من القلعة ويقف على العمل ويهين أقبغا ويسبه ويستحثه حتى تمّ العمل للنصف من ذي الحجة وكانت عدّة المراكب التي غرقت فيه وهي مشحونة بالحجارة اثني عشر مركبًا كل مركب منها تحمل ألف مركب سوى ما عمل فيه من آلات الخشب والسرياقات وحفر في الجزيرة خليج وطيء فلما جرى النيل في أيام الزيادة مرّ في ذلك الخليج ولم يتأثر الجسر من قوّة التيار وصارت قوّة جري النيل من ناحية أنبوبة بالبرّ الغربيّ ومن ناحية التكروريّ أيضًا فسرّ السلطان بذلك وأعجبه إعجابًا كثيرًا وكان هذا الجسر سبب انطراد الماء عن برج القاهرة حتى صار إلى ما صار إليه الآن‏.‏

الجسر فيما بين الجيزة والروضة‏:‏ كان السبب المقتضى لعمل هذا الجسر أن الملك الناصر لما عمل الجسر فيما بين بولاق وناحية أنبوبة وناحية التكروريّ انطرد ماء النيل عن برّ القاهرة وانكشفت أراض كثيرة وصار الماء يحاض من برّ مصر إلى المقياس وانكشف من قبالة منشأة المهرانيّ إلى جزيرة الفيل وإلى منية الشيرج وصار الناس يجدون مشقّة لبعد الماء عن القاهرة وغلت روايا الماء حتى بيعت كلّ رواية بدرهمين بعدما كانت بنصف وربع درهم فشكا الناس ذلك إلى الأمير أرون العلائيّ والي السلطان الملك الكامل شعبان بن الملك الناصر محمد بن قلاون فطلب المهندسين ورئيس البحر وركب السلطان بأمرائه من القلعة إلى شاطيء النيل فلم يتهيأ عمل لما كان من اتبداء زيادة النيل إلاّ أنّ الرأي اقتضى نقل التراب والشقاف من مطابخ السكّر التي كانت بمصر وإلقاء ذلك بالروضة‏.‏

لعمل الجسر فنقل شيء عظيم من التراب في المراكب إلى الروضة وعُمل جسر من الجزيرة إلى نحو المقياس في طول نحو ثلثي ما بينهما من المسافة فعاد الماء إلى جهة مصر عودًا يسيرًا وعجزوا عن إيصال الجسر إلى المقياس لقلة التراب وقويت الزيادة حتى حلا الماء الجسر بأسره واتفق قتل الملك الكامل بعد ذلك وسلطنة أخيه الملك المظفر حاجي بن محمد بن قلاون أول جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وسبعمائة‏.‏

فلما دخلت سنة ثمان وأربعين وقف جماعة من الناس للسلطان في أمر البحر واستغاثوا من بعد الماء وانكشاف الأراضي من تحت البيوت وغلاء الماء في المدينة فأمر بالكشف عن ذلك فنزل المهندسون واتفقوا على إقامة جسر ليرجع الماء عن برّ الجيزة إلى برّ مصر والقاهرة وكتبوا تقدير ما يُصرف فيهمائة وعشرين ألف درهم فضة فأمر بجبايتها من أرباب الأملاك التي على شط النيل وأن يتولى القاضي ضياء الدين يوسف بن أبي بكر المحتسب جبايتها واستخراجها فقيست الدور وأخذ عن كل ذراع من أراضيها خمسة عشر درهمًا وتولى قياسها أيضًا المحتسب ووالي الصناعة فبلغ قياسها سبعة آلاف وستمائة ذراع وجبي نحو السبعين ألف درهم فاتفق عزل الضيّاء عن الحسبة ونظر المارستان المنصوريّ ونظر الجوالي وولاية ابن الأطروش مكانه ثم قتل الملك المظفر وولاية أخيه الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون سلطنة مصر بعده في شهر رمضان منها فلما كانت في سنة تسع وأربعين وسبعمائة وقع الاهتمام بعمل الجسر فنزل الأمير بلبغا أروس نائب السلطنة والأمير منجك الاستادار وكان قد عزل من الوزارة والأمير قيلاي الحاجب وجماعة من الأمراء ومعهم عدّة من المندسين إلى البحر في الحراريق والمراكب إلى برّ الجيزة وقاسوا ما بين برّ الجيزة والمقياس وكتب تقدير المصروف نحو المائة والخمسين ألف درهم وألف خشبة من الخشب وخمسمائة صار وألف حجر في طول ذراعين وعرض ذراعين وخمسة آلاف شنفة وغير ذلك من أشياء كثيرة‏.‏

فركب النائب والوزير والأمير شيخو والأمراء إلى الجيزة وأعادواالنظر في أمر الجسر ومعهم أرباب الخبرة فالتزم الأمير منجك بعمل الجسر وأن يتولى جباية المصروف عليه من سائر الأمراء والأجناد والكتاب وأرباب الأملاك بحيث أن لا يبقى أحد حتى يؤخذ منه فرسم لكتاب الجيش بكتابة أسماء الجند وقرّر على كلّ مائة دينار من الإقطاعات درهم واحد وعلى كلّ أمير من خمسة آلاف درهم إلى أربعة آلاف درم وعلى كلّ كاتب أمير ألف مائتا درهم وكاتب أمير الطبلخانات مائة درهم وعلى كلّ حانوت من حوانيت التجار درهم وعلى كلّ دار درهمان وعلى كلّ بستان الفدّان من عشرين درهمًا إلى عشرة دراهم وعلى كلّ طاحون خمسة دراهم‏.‏

عن الحجر وعلى كلّ صهريج في تربة بالقرافة أو في ظاهر القاهرة أو في مدرسة من عشرة دراهم إلى خمسة دراهم وعلى كل تربة من ثلاثة دراهم إلى درهمين وعلى أصحاب المقاعد والمتعيشين في الطرقات شيء وكشفت البستاين والدور التي استجدّت من بولاق إلى منية الشيرج والتي استجدّت في الحكورة والتي استجدّت على الخليج الناصريّ وعلى بركة الحاجب وفي حكر أخي صاروجا وقيست أراضيها كلها وأخذ عنكلّ ذراع منها خمسة عشر درهمًا وأخذ عن كلّ قمين من أقمنة الطوب شيء وعن كلّ فاخورة من الفواخير شيء وفرض على كلّ وقف بالقاهرة ومصر والفرافتين من الجوامع والمساجد والخوانك والزوايا والربط شيء وكتب إلى ولاة الأعمال بالجباية من ديورة النصارى وكنائسهم مائتي درهم إلى مائة درهم وقرّر على الفنادق والخانات التي بالقاهرة ومصر شيء وقرّر على ضامنة الأغاني مبلغ خمسين ألف درهم وأقيم لكل جهة شادّ وصيرفي وكتّاب وغير ذلك من المستحثين من الأعوان فنزل من ذلك بالناس بلاء كبير وشدّة عظيمة فإنه أخذ حتى من الشيخ والعجوز والأرملة وجبى الماء منهم بالعسف وأبطل كثير منهم سببه لسعيه في الغرامة ودهي الناس مع الغرامة يتسلط الظلمة من العرفاء والضمان والرسل فكثر كلام الناس في الوزير حتى صاروا يلهجون بقولهم هذه سخطة مرصص نزلت من السماء على أهل مصر وقاسوا شدّة أخرى في تحصيل الأصناف التي يحتاج إليها ونزل الوزير منجك وضرب له خيمة على جانب الروضة ونادى في الحرافيش والفعلة من أراد العمل يحضر ويأخذ أجرته درهمًا ونصفًا وثلاثة أرغفة فاجتمع إليه عالم كثير وجعل لهم شيئًا يستظلون به من حرّ الشمس وأحسن إليهم ورتب عدّة مراكب لنقل الحجر وأقام عدة من الحجارين في الجبل لقطع الحجر وجمالًا وحميرًا تنقلها من الجبل إلى البحر ثم تحمل من البرّ في المراكب إلى برّ الجيزة وابتدأ بعمل الجسر من الروضة إلى سقاية علم الدين زنبور وعارضه بجسر آخر من بستان التاج إسحاق إلى ساقية ابن زنبور وأقام أخشابًا من الجهتين وردم بينهما بالتراب والحجر والحلفاء ورتب الجمال السلطانية لقطع الطين من برّ الروضة وحمله إلى وسط الجسر وأمر أن لا يبقى بالقاهرة ومصر صانع إلا حضر العمل وألزم من كان بالقرب من دار كوم تراب أن ينقله إلى الجسر فغرم كل واحد من الناس في نقل التراب من ألف درهم درهم إلى خمسمائة درهم وكان كلّ ما ينقل في المراكب من الحجر وغيره يرمى في وسط جسر المقياس وتحمله الجمال إلى الجسر ثم اقتضى الرأي حفر خليج يجري الماء فيه عند زيادة النيل لتضعف قوّة التيار عن الجسر فأحضرت الأبقار والجراريف والرجال لأجل ذلك واتبدؤوا حفره من رأس موردة الحلفاء تحت الدور إلى بولاق وكانت الزيادة قد قرب أوانها فما انتهى الحفر حتى زاد ماء النيل وجرى فيه فسرّ الناس به سرورًا كبيرًا وانتهى مر الجسر في أربعة أشهر‏.‏

إلا أنّ الشناعة قويت على الوزير وبلّغ الأمراء النائب ما يقال عن منجك من كثرة جباية الأموال فحدّثه في ذلك ومنعه فاعتذبر بأنه لم يسخر أحدًا ولا استعمل الناس إلاّ بالأجرة وأن في هذا العمل للناس عدّة منافع وما عليّ من قول أصحاب الأغراض الفاسدة ونحو ذلك وتمادى على ما هو عليه فلما جرى الماء في الخليج الذي حفر تحت البيوت من موردة الحلفاء إلى بولاق مرّت فيه المراكب بالناس للفرجة واحتاج منجك إلى نقل خيمته من برّ الروضة إلى برّ الجيزة وأحضر المراكب الكبار وملأها بالحجارة وغرّق منها عشر مراكب في البحر وردم التراب عليها إلى أن كمل نحو ثلث العمل فقويت زيادة الماء وبطل العمل‏.‏

فلما كثرت الزيادة جمع منجك الحرافيش والأسرى وردم على الجسر التراب وقوّاه فتحامل الماء عن البرّ الغربيّ إلى البرّ الشرقيّ ومرّ من تحت الميدان السلطانيّ وزريبة قوصون إلى بولاق فصار معظمه من هذه المواضع وحصل الغرض بكون الماء بالقرب من القاهرة وانتهى طول جسر منجك إلى مائتين وتسعين قصبة في عرض ثمان قصبات وارتفاع أربع قصبات والجسر الذي من الروضة إلى المقياس طوله مائتان وثلاثون قصبة وعدّة ما رمي في هذا العمل من المراكب المشحونة بالحجر اثنا عشر ألف مركب سوى التراب‏.‏

وغير ذلك وكان ابتداء العمل في مستهل المحرّم وانتهاؤه في سلخ ربيع الآخر ولم تنحصر الأموال التي جبيت بسببه فإنه لم يبق بالقاهرة ومصر دار ولا فندق ولا حمّام ولا طاحون ولا وقف جامع أو مدرسة أو مسجد أو زاوية ولا رزقة ولا كنيسة إلاّ وجبيّ منه فكان الرجل الواحد يغرم العشرة دراهم ومن خصه درهمان يحتاج إلى غرامة أمثالهما وأضعافهما وناهيك بمال يُجبى من الديار المصرية على هذا الحكم كثرة وقد بقيت من جسر منجك هذا بقية هي معروفة اليوم في طرف الجزيرة الوسطى‏.‏

جسر الخليلي‏:‏ هذا الجسر فيما بين الروضة من طرفها البحريّ وبين جزيرة أروى المعروفة بالجزيرة الوسطى تجاه الخور وكان سبب عمله أن النيل لما قوي رمى تياره على برّ القاهرة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون وقام في عمل الجسر ليصير رمي التيار من جهة البرّ الغربيّ كما تقدّم ذكره انطرد الماء عن برّ القاهرة وانكشف ما تحت الدور من منشأة المهرانيّ إلى منية الشيرج وعمل منجك الجسر الذي مرّ ذكره ليعود الماء في طول السنة إلى برّ القاهرة فلم يتهيأ كما كان أولًا وجرى في الخليج الذي احتفره تحت الدور من موردة الحلفاء بمصر إلى بولاق وصار تجاه هذا الخليج جزيرة والماء لا يزال ينطرد في كل سنة عن برّ القاهرة إلى أن استبدّ بتدبير مصر الأمير الكبير برقوق‏.‏

فلما دخلت سنة أربع وثمانين وسبعمائة قصد الأمير جهاركس الخليليّ عمل جسر ليعود الماء إلى برّ القاهرة ويصير في طول السنة هناك ويكثر النفع به فيرخص الماء المحمول في الروايا ويقرب مرسى المراكب من البلد وغير ذلك من وجوه النفع فشرع في العمل أوّل شهر ربيع الأوّل وأقام الخوازيق من خشب السنط طول كلّ خازوق منها ثمانية أذرع وجعلها صفين في طول ثلاثمائة قصبة وعرض عشر قصبات وسمر فيها أفلاق النخل الممتدّة وألقى بين الخوازيق ترابًا كثيرًا وانتصب هناك بنفسه ومماليكه ولميجب من أحد مالًا البتة فانتهى عمله في أُخريات شهر ربيع الآخر وحفر في وسط البحر خليجًا من الجسر إلى زريبة قوصون وقال شعراء العصر في ذلك شعرًا كثيرًا منهم عيسى بن حجاج‏:‏ جسرُ الخليليّ المقرّ لقد رسا كالطودِ وسط النيلِ كيف يُريدُ وقال الأديب شهاب الدين أحمد بن العطار‏:‏ شكتِ النيلُ أرضه للخليلي فأحصرهْ ورأى الماءَ خائفًا أنْ يطاها فجَسرَهْ وقال‏:‏ رأى الخليليُّ قلبَ الماءِ حين طغى بنى على قلبِهِ جسرًا وحيَّرَهُ رأى ترمُّلَ أرضيهِ ووحدَتَها والنيلُ قد خافَ يغشاها فجسَّرَهُ ومع ذلك ما ازداد الماء إلاّ انطرادًا عن برّ القاهرة ومصر حتى لقد انكشف بعد عمل هذا الجسر شيء كثير من الأراضي التي كانت عامرة بماء النيل وبَعُدض النيل عن القاهرةُ بُعدًا لم يُعهد في الإسلام مثله قط‏.‏